مجتمع

«دليل النجاة الفردية»: خارطة طريق للتعافي من إساءات الأهل

لم ننشأ جميعُنا في بيوتٍ آمنة، لكننا جميعًا نستحق النجاة. «دليل النجاة الفردية» ليس مجرد كتاب، بل خريطة خروج من دوّامة إساءات ومعاناة الماضي.

future غلاف كتاب «دليل النجاة الفردية.. خريطة نجاتك النفسية الآن، من آثار تاريخك الشخصي مع أهلك» للدكتور أحمد أبو الوفا (عصير الكتب: 2023)

يكثر الحديث عن عقد الطفولة والتعمق في تحليل العلاقات المرتبكة مع الأهل وكيف تترك ندبات في الشخصية منذ الصغر تحرمها من أداء أدوارها المختلفة في العلاقات بالكفاءة المطلوبة، وتجعلها تلف وتدور بقية حياتها في فلك نفس الأنماط السلبية من البشر دون وعي منها، ودون أن تدري بمَخرجٍ من الدوامة أو سبيلٍ إليه. النتيجة أن هذه الشخصية تعيش عالقة في الماضي فلا تتقدم في علاقاتها الإنسانية ولو لم تدرك سبب عرقلتها. يقول الدكتور أحمد أبو الوفا، الطبيب النفسي، إن مشكلات علاقاتنا بالأهل ليس سببًا ولا مبررًا لتوقف قدرتنا على الحياة، لكن إدراكها وتجاوزها يعد سببًا مهمًا وأساسيًا في تطور حياتنا. أي أن «حتى هذا سيمر» كما المقولة الشهيرة.

في كتابه «دليل النجاة الفردية.. خريطة نجاتك النفسية الآن، من آثار تاريخك الشخصي مع أهلك» (عصير الكتب: 2023)، يقدم أبو الوفا خارطة طريق من 40 قاعدة للشخص الذي عانى في طفولته من علاقة غير مشبعة مع أهله، فكبر وهو لا يدرك كيف النجاة وكيف يصل إليها. بتثبيت هذه القواعد وخوض طريق النجاة من الطفولة البائسة، ينطلق الطفل الذي شبّ لفضاء رحب من العلاقات الصحية بعد التحرر من رواسب الطفولة، وممارسة الحياة، ومنح القدرة على الرعاية بعد المحبة حين يصبح الطفل أبًا أو أمًا.

التعلق الآمن وما سواه

قبل أن يقدم خريطة النجاة، يفصل الكتاب في أنماط سلوكيات الأبوين الضارة، والسمات الشخصية السلبية، كما يشرح أبعاد وصفات العلاقة الآمنة التي تُنشئ طفلًا سويًا ليتمكن القارئ من ضبط المصطلحات وإعادة قراءة تاريخه الأسري دون خلط أو تجنٍ إذا بالغ في تضخيم موقف ما مثلًا.

تشترط العلاقة الآمنة في مقدم الرعاية للطفل الانتظام والكفاءة. الانتظام بمعنى أنه لا يُفتقد وقت الحاجة فمقدم الرعاية متوفر ومتوقع بما يوفر الأمان اللازم. والكفاءة بمعنى أنه يُعتمد عليه في تلبية احتياجاتي من جوع أو مشاعر أو دفء في التوقيت الذي يحتاجه الطفل. ويوضح الكتاب أن غياب أحد الشرطين سيفرز تعلقًا غير آمن من ثلاثة أشكال إما من النوع التجنبي، أو النوع القَلِق، أو تعلق غير آمن مضطرب.

أما التعلق الآمن فيقول عنه الطبيب الإنجليزي دونالد وينيكوت: العلاقات الآمنة للأطفال لا تكون مع أهل مثاليين وإنما أهل عاديين يمارسون الأبوة والأمومة العادية بالطريقة العادية وبالأخطاء العادية ولكنهم قادرون على الاعتذار وتصحيح الخطأ كلما أمكن، لا يجادلون في الخطأ، مشاعرهم تظهر عليهم، وتغلبهم أحيانًا، ويستطيعون تدارك مشكلاتهم، كما يجيدون اللعب مع أطفالهم، وربما يربحون أو يخسرون أمامهم.

ما يضمن العلاقة الآمنة مع الطفل هو التواصل العاطفي والجسدي. هكذا تكون العلاقة العادية التي تغير في كيمياء المخ وتؤدي إلى نموه بشكل صحي فيكبر الطفل وهو قادر على التحكم في مشاعره، وقادر على أن يكون نفسه، وقادر على أن يحقق أقصى ما يمكنه من التطور المتاح له من جيناته. أما إذا لم يتعلم ذلك فسيؤدي إلى عدم نمو مناطق في مخه بالشكل الكافي ما ينتج عنه صعوبة كبيرة في بعض الوظائف النفسية والاجتماعية وهو كبير.

مفتاح التعرف على المشكلة يكون عن طريق المشاعر. تقول فصول الكتاب الأولى إن المشاعر دومًا حقيقية وإن جهلت أسبابها. ما يعني أن المرء قد يشعر بالخوف دون أن يدري سببًا له وهذا لا يعني أنه مخطئ في شعوره. فكل شعور مهما كان قاسيًا إلا أن له ضرورة حياتية ومن دونه لا يستطيع المرء النجاة.

يشير أبو الوفا إلى أن غريزة البقاء هي الأقوى لدى جميع الكائنات الحية وأن النجاة فردية بشكل رئيسي. يعني هذا أن النجاة مسؤولية الناجي، فعليه ألا يربط نفسه بأحد، إذ ليس كل من نحبهم سيقررون النجاة، ونجاتهم ليست مسئوليتنا فربما هم غير جاهزين الآن. باختصار.. إنك لا تهدي من أحببت. وتتلخص صفات الناجين في القدرة على التكيف، المرونة والمقاومة النفسية، الأمل، التميز، والحب.

تتضمن النجاة إعذار الآخرين الذين غابوا أو لم يوفروا الحماية الكافية وأن العذر لا يعني المغفرة بالضرورة؛ فالأغلبية لم تكن نيتهم سيئة ولم يقصدوا الضرر، والنزاع لم يكن مع الشخص الموجود أمامك الآن في نسخته الضعيفة والهشة، وأنك لو شعرت بحب الشخص لك فهو شعور صادق، وأن الأذى لا يعني غياب المحبة فربما هو أيضًا يعاني ولديه تاريخ من الأذى لا تعلم عنه شيئًا.

النضج العاطفي

يقسم الكتاب أنواع الأهل غير الناضجين عاطفيًا إلى أربعة نماذج هي الديكتاتوري، والمتساهل، والسلبي، والنموذج غير المنتظم. على اختلافاتهم، لا يحب الأهل غير الناضجين عاطفيًا الأسئلة الوجودية الصعبة، ولا تحتمل مشاعرهم المعضلات الأخلاقية فيميلون لأن يصنفوا الأمور وفق الأخلاق والدين بين أبيض وأسود. يضغطان بهما ويحولانهما لأداة سلطة أو وسيلة عقاب، وهما شيء مكتسب ينمو بنمو الطفل. 

وبالتبعية تنعكس شخصية الأهل غير الناضجين عاطفيًا على سلوكياتهم مع أطفالهم. يرسم الكتاب صورة متكاملة لهذه السلوكيات حتى يسهل التعرف عليها تشمل اعتبار طلباتهم واحتياجاتهم أهم من طلبات واحتياجات الطفل، والجمود في الرأي من منطلق امتلاكهم وحدهم الإجابة الصحيحة، واستحالة التواصل أو صعوبته في أفضل الأحوال وهو ما يمكن استنتاجه من فقدان الحماس وقت الكلام، المقاطعة، الحديث غير المباشر بكلام ملتبس، إنكار الحقيقة والكذب، نسيان الوعود، تغيير نبرة الصوت، إعادة فتح موضوعات مغلقة، وغيرها.

هؤلاء الأهل يتعذر مصالحتهم ونسيانهم للمواقف، ويصعب تشجيعهم وإشعارهم لطفلهم بالإنجاز فمهما فعل سيعدلون عليه. سيضعون له أهدافًا مستحيلة التحقيق، وسيقللون من قيمة ما يفعل، وسينتقدونه على ما لم يتم الاتفاق عليه، بينما يفرضون أجواء من الحماية المفرطة. سيشجعون التقليد لا الابتكار وهو ما يظهر من خلال التهديد بمحبة الطفل لفعل أو عدم فعل شيء معين أو إنكار المحبة أصلًا، التهديد بالمستقبل، التشكيك في نيات الناس تجاه الطفل، التهكم، استخدام الدين وأوامر الله أدوات لفرض الطاعة، ربط الأحداث السيئة في الحياة بعدم طاعتهم، عقد المقارنات، وربما الوقوع في فخ الاستبدال، ومنح الثواب أو المكافأة فقط على ما يريدون والعقاب على غير ذلك.

يقول أبو الوفا إن الأشخاص غير الناضجين عاطفيًا غير ناضجين في كل علاقاتهم، فلو لديهم مشاكل أسرية سيطلبون من الطفل أن يأخذ جانب أحد الطرفين، سيدخلون منافسة على المحبة الظاهرية وهو ما يتجلى في المنافسة على الوقت بين أحد الأبوين، سيلومونه على حب الطرف الآخر الذي سيذمون فيه، وسيعتمدون عاطفيًا على الطفل كمصدر للطمأنة والشكوى.

40 قاعدة

تحتل قواعد النجاة التي هي بوابة لإعادة إعمار الذات أكثر من نصف الكتاب الذي يقع في 328 صفحة. تبدأ الرحلة بتفعيل وضع النجاة عن طريق تسمية الأشياء مجردة دون إضافات أو أفكار مثل اعتبار البيئة المحيطة بيئة صعبة، وتمثيل الاضطراب الداخلي الحاصل باسم يعبر عنه شعوريًا، واعتبار السمات التي تسبب الضيق حلولًا مؤقتة لمشكلة انتهت أو في طريقها للانتهاء وعندها ستتغير هذه الحلول.

تقول القواعد إن عقلك ليس دائمًا في صفك إذ يحاول العقل النجاة اللحظية دون اكتراث بالغد ولهذا قد يمارس التضليل والتلاعب، ولهذا عليك أن تعلم أن فرص النجاة موجودة وليست معدومة لكنها تحتاج إلى عمل ذهني ضد القناعات الراسخة التي ولدتها تلك البيئة في النفوس. تقول أيضًا إن النجاة للداخل وليست للخارج فلا يفيد تغيير البيئة الخارجية بقدر مراجعة ما رسخ في داخل الإنسان عبر الإنصات الداخلي، وأن لا أحد يتغير بطبيعته بل يُدفع إلى التغيير نتيجة الفشل في محاولات التأقلم وأن الاستحقاق يحتاج إلى تصديق. تنبه إلى أن التغيير لا يمكن أن يطال كل شيء فبعض الأشياء فات أوانها. ورغم عدم إمكانية تغيير الماضي، لكن يمكن تغيير آثاره المستمرة الحاضرة.

تنصح القواعد بعدم انتظار ما لن يأتي فلا تنتظر ممن حرمك أن يلبي احتياجاتك النفسية والعاطفية بل أفصح عنها في تواصل إنساني مثمر مع أشخاص آخرين وأن عليك السماح لغيرك بمساعدتك بعض الوقت فللنجاة وسيلة مساعدة مهمة هي الحلفاء الذين يتمنون لك الخير أو على أقل تقدير يكونون طيبين معك.

وتذكرك القواعد أن البصيرة مؤلمة مؤقتًا لأنها تأتي بمعارف جديدة قاسية لكنها تحمل فرص نجاة أكبر في الوقت نفسه، وأن عليك الاهتمام بنفسك وأن الألم دليل تعافٍ وأن التغيير يبدأ بالأفكار قبل السلوك. تقول كذلك بضرورة الانتماء إلى فكرة أو مجموعة دون الوقوع في فخ الأسر فالوحدة الشديدة والعزلة ضد النجاة، وتؤكد أن ما عرفته وما سمعته وما رأيته حصل حقًا ولا يهيأ لك فلا تشك به، وتطمئنك أن كل المهارات التي طورتها للنجاة من هذه البيئة الصعبة من حقك.

يتبقى العمل بعد المعرفة وهو عملية طويلة وشاقة، لكن علينا تذكر أهميته فـ«الوظيفة الأصلية والأساسية للإنسان هي النجاة، أن يظل على قيد الحياة» كما يقول أبو الوفا، والنجاة فعل متكرر والانتكاس جزء من الرحلة، لكن تكرار ممارسة فعل النجاة أسهل بكثير في المرات التالية ولا يتطلب المجهود الذي بذلته أول مرة.

# صحة نفسية # مراجعات كتب # كتب # علم نفس # عصير الكتب

القلق: أزمة صامتة تهدد الصحة النفسية عالميًا
20 انحناءة في اليوم: كيف تطفئ التفاصيل الصغيرة قلوب الأمهات؟
في الزواج.. كيف يحدث الجفاف العاطفي؟

مجتمع